كتب د. عبدالحكيم الحسبان -
لطالما كان يحلو للفيلسوف الألماني نيتشه أن يشبه اللغة ويتمثلها على شاكلة جيش حقيقي متخم بالسلاح حيث تفعل المفردات والصياغات المشحونة بالدلالات والصور والرموز ذات الفعل الذي تقوم به الدبابات والمدافع في ساحات المعارك. فدائما ما كانت الحروب تبدأ باللغة وتخاض بها، ولطالما مهدت اللغة الارض لكل المجازر وجرائم الابادة تبدأ في اللغة كما تنتهي بها، وهي تحضر فيها قبل أن تقوم المدافع والطائرات والقنابل بعملها على االأرض. والحال، إنني استحضر نيتشه وعباراته الشهيرة عن اللغة، ومشاهد المجازر والقتل والتوحش والموت المجاني والعميم تملأ المنطقة في حين تمهد اللغة- وخصوصا فيما يفترض أنه إعلام -الارض لكل هذه المجازر، كما تواكب عملها وحيث تملا المكان، وتسيطر عليه لفظة أقلية، وأقليات، في مقابل أكثرية وأكثريات. في المشهد الذي تعيشه المنطقة لا صوت يعلو فوق صوت الاكثريات، ولا حديث إلا عن الاكثرية والاقليات.
تمثل سويسرا نموذجا فريدا من الدول أو ألأمم، فالسمعة والهيبة والحضور التي تسجلها هذه الدولة منذ قرون طويلة لا تتناسب مطلقا مع حجم هذه الدولة إن كان لجهة الجغرافيا أو لجهة الديموغرافيا إذ لا يزيد عدد سكان هذه الدولة عن الستة ملايين. من المفارقات التي تحضر لحظة الحديث عن هذه الدولة، هو هذا الحضور الميكانيكي للفظة " إتحاد" . ففي الحديث الذي يسود في الداخل السويسري كما يتداوله السويسريون تحضر لفظة إتحاد. والدولة يتم تمثلها وإدراكها على شاكلة اتحاد؛ أي أنها بناء قانوني حقوقي سياسي جغرافي. وأما المفارقة في هذا، فهي أن سويسرا في الواقع هي نموذج لدولة الاكثرية والاقليات بالمعنى السكاني والديني والاثني والثقافي واللغوي. فهناك أكثرية تتحدث اللغة الالمانية، واخرى تتحدث الفرنسية واقلية تتحدث الايطالية. ذات التنوع اللغوي موجود أيضا في سويسرا على صعيد الدين.
وفي مقابل النموذج السويسري الذي تحضر لفظة إتحاد لحظة الحديث عنه، فإن لفظة "فسيفساء" هي التي تحضر ويجري استحضارها لحظة الحديث عن لبنان وسوريا والعراق والاردن وفلسطين والسودان وسائر كيانات المنطقة العربية. ففي الاعلام كما في خطاب المستشرقين لا يجري تمثل المنطقة وإدراكها إلا على شكل فسيفساء سكاني وثقافي ولغوي. وكما في لوحة الفسيفساء فان اللوحة لا تشتمل على لون واحد، بل على عدة ألون، ولكن كل لون يمثل رقعة لا تتفاعل أو تتداخل مع الرقع الاخرى. وكل رقعة تعيد انتاج الخطوط الفاصل التي تجعلها مستقلة، بل ومتعارضة، بل ومتنافرة أحيانا، بل ومعادية طوال الوقت للرقع الاخرى.
وأما المأساة في هذا فهو ليس هذا الحضور الطاغي للفظة فسيفساء في الخطاب الاكاديمي، والاعلامي، والسياسي الغربي عن الشرق، بل تكمن المأساة في هذه الهيمنة للفظة على خطابنا الاجتماعي الشعبي والنخبوي في الاعلام كما في الثقافة والسياسة. نتحدث عن سويسرا كدولة وتحضر لفظة اتحاد سويسري، وتغيب لفظة الاكثرية الالمانية والاقليات الفرنسية والايطالية في سويسرا. وأما حين نتحدث عن أنفسنا فلا نتحدث عنها إلا بلغة الفسيفساء ولغة الاقليات وحيث هناك اكثرية لعشيرة أو عشائر معينة في مقابل رقع من العشائر التي تمثل الاقليات داخل العشائر، ونتحدث عن طائفة هي بمثابة الاكثرية وطوائف اخرى باعتبارها أقليات. وفي هذا الخطاب لا تحضر سوريا أو العراق او لبنان وحيث يتجاوز عدد المجموعات اللغوية والطائفية أكثر من 20 مجموعة الا من خلال خطاب الاكثرية في مقابل أقليات.
وفي الأردن لا يوجد أي اساس ديموغرافي أو جيوسياسي يبرر هذا الانقسام السني والشيعي القبيح والمدمر. فلا الجغرافيا ولا السكان ولا التاريخ هي في ضمن نطاق هذا الانقسام، ولكن النزعة الانقسامية والتي تقوم اللغة فيها بدور المتآمر تجلب ومن وراء الحدود وعبر الفضائيات والاعلام هذه الانقسام الذي له حضور في الذهن أكثر منه على الارض، ما يجعله انقساما يعيشه الاردنيون افتراضيا أكثر منه واقعا معيشيا معاشا في السوق أو المسجد أو المدرسة. وكأن الاردنيون ينقصهم المزيد من عوامل الانقسام ومن تداول الخطاب الانقسامي والتقسيمي.
في الاستخدام الكثيف للفظة أقلية وأكثرية يمارس تشويش معرفي ومفاهيمي قاتل ربما كان مقصودا، ولكنه على صعيد التوظيف والاستثمار هو حتما مقصود. وأما منبع هذا التشويش فهو الخلط بين الدولة ومكوناتها على صعيد البناء الحقوقي أي مجموع الحقوق والواجبات ألاساسية التي تعرف الفرد كما تعرف حقوقه وواجباته تجاه الدولة ومؤسساتها كما تجاه الافراد الاخرين وفق أساس تعاقدي يدخل فيه الفرد التعاقد باعتباره فردا، كما تدخل فيه الدولة ومؤسساتها مع مواطنيها باعتبارهم أفرادا وكائنات فردية وليس كائنات جماعية. وبهذا المعنى فإن الاتحاد السويسري هو بناء حقوقي وقانوني يشتمل على ستة ملايين متعاقد فرد مع الدولة ومع بعضهم البعض ويتم تعريف وفق ذات منظومة الحقوق والواجبات. وفي هذا البناء الحقوقي هناك المسيحي البروتستانتي والكاثوليكي، والمسلم السني والشيعي والبوذي، وهنا الناطق بالالمانية والناطق بالفرنسية..الخ.
فعلى صعيد البناء الحقوقي القانوني لا مجال مطلقا لحديث الاقلية والاكثرية. هناك فقط شعب وأمة من السويسريين. وأما لفظة الاكثرية والاقلية فهي تظهر حين يمارس السويسريون مواطنيتهم على صعيد البرنامج السياسي مثلا، أو على صعيد العمل البرلماني، أو على صعيد المواقف اليومية من قضايا سياسية او بيئية، إذ تنقسم الامة السويسرية إلى يسار ويمين، وليبراليون، ومحافظون، وخضر..ألخ.
المأساة أن هذا التمييز بين ما هو بنيوي حقوقي في بناء الدولة وبين ما هو مماراساتي يومي أو ما هو برامجي يختلط أو ربما يراد له أن يختلط في الذهن، وأن يشكل على الذهن أمره. ففي العراق لا يود لنا أن نرى عراقيين بل يراد لنا أن نرى أكثرية شيعية في مقابل أقليات سنية، ومسيحية، وكردية، وأيزيدية وغيرها. وفي سوريا يراد لنا أن نرى أكثرية سنية في مقابل أقليات مسيحية ودرزية وعلوية واسماعيلية وشيعية. وهنا يصبح المنطق أن الاكثرية هي من تندرج ضمن البناء الحقوقي وهي التي تملك الحقوق المواطنية وتتحكم في كم ونوع الحقوق والواجبات في حين الاخرين ولانهم أقليات فما عليهم سوى يختفوا من خريطة البناء الحقوقي، وهو ما يشرعن في النهاية لمصادرة حقهم ليس في التشارك في الوطن واقتصاده واجتماعه، بل تصل المصادرة حد مصادرة حقهم في الحياة. فالشيعي عليه أن يختفي طالما أنه أقلية، وكذلك على الماروني أن يختفي طالما أنه وسط أكثرية سنية، وعلى هذا المنوال يسير الحال.
من المثير للحزن، أن وسائل الاعلام التي يسيطر الغرب على جلها إن كان لجهة التمويل والملكية، أو لجهة التأثير السياسي والفكري تستخدم خطابا مزدوجا خبيثا حين تتحدث عن مجتمعاتنا في مقابل حديثها عن مجتمعاتها هي أو حتى مجتمعات العالم الاخرى. ففي حقبة حكم الرئيس العراقي الاسبق صدام حسين كانت لازمة الرئيس الديكتاتور الذي ينتمي للاقلية السنية والذي يضطهد أكثرية تتكون من الشيعة، هي المستخدمة في الاعلام الغربي والعربي الذي يدور في فلكه. وما أن تمت الاطاحة بالرئيس العراقي واعدامه حتى ينقلب هذا الاعلام ضد مجتمع الشيعة الذي كان بموقع الضحية، ليجري الحديث الان عن عراق يسيطر عليه الشيعة ويضطهد السنة. ومع هذا الانقلاب الاعلامي، لم يعد صدام هو ديكتاتور سني اضطهد الشيعة، بل بات زعيما وقائدا ينتمي للاقلية السنية اضطهدته الاكثرية الشيعية. وفي الاعلام الغربي الذي يخاطبنا يبث لنا مثلا خبرا عن تفجير في احد احياء بغداد فيقول لنا أن هذا الحي شيعي أو سني، ولكن هذا الاعلام لا يقول لنا إن كان الحي الذي وقع فيه انفجار في باريس او لندن على أنه كاثوليكي او بروتستانتي.
فيما كل ما يجري في سوريا ولبنان حاليا، وفي كل ما جرى في العراق ولبنان والسودان في زمن مضى، يتم ضخ مفردات لغوية وخطاب لغوي يريد من جمهور المشاهدين أن يرى العراق وسوريا والاردن ولبنان ومصر وكل بلدان المنطقة على أنها ليست بلدانا وشعوبا وأمم، بل مجرد جماعات فسيفسائية، وعلى أنها كتل من الطوائف المختلفة بل والمتصاعة. ويراد للسني أو الشيعي أو العلوي أو المسيحي أن يقتل ويباد، لاننا نجحنا بعد أن مارسنا كما عظيما من الخداع الفكري والاخلاقي في أن نحيلهم إلى أقليات.